الأحد، 15 ديسمبر 2013

أديب العربية، محمد إسعاف النشاشيبي (1885-1948)

إسعاف النشاشيبي: ظريف أيام القدس الذهبية
ظهر أديب العربية، محمد إسعاف النشاشيبي (1885-1948)، في مذكرات واصف جوهرية، بشكل غير متوقع في السرديات الفلسطينية عن الشخصيات العامة، التي تنحاز للصورة الرسمية التي تُقدم عن هذه الشخصيات، فعرفنا، مثلا تفاصيل عن خلافاته مع والده، التي لم يكن من السهل أبدا رأبها، ولم يغير من ذلك حتى موت الوالد، وفي يوميات خليل السكاكيني، نجد النفور بين الصديقين، بعد اختيار السكاكيني عضوا في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وهو منصب لطالما دغدغ أحلام النشاشيبي، وسعى للوصول إليه.
صورة النشاشيبي، كأحد ظرفاء القدس وفلسطين، لا تغيب عن جل المذكرات الشخصية، فهو مثلا، اشتهر بكنيتين: أبو الفضل، وهي كنية بديع الزمان الهمذاني، تكنى بها إسعاف لتعلقه بالهمذاني ونسجه على منواله في مقاماته، وهو ثانياً أبو عبيدة، ولعلها اقتداء بأبي عبيدة معمر بن المثنى اللغوي الإخباري المشهور، أما لقبه أديب العربية وخطيب فلسطين، لأنه أخذ على نفسه عهداً بالدفاع عن العربية بأسلوب حماسي يعتمد الخطبة.
بعض الطرائف عن النشاشيبي، دونها، المحامي حنا نقارة، كما نجدها في كتاب (حنا نقارة محامي الأرض والشعب)، وهو من إعداد حنا إبراهيم، ومنشورات دار الأسوار، عكا، الطبعة الأولى 1965.
يروي نقارة: «في العام 1946 توفي الأديب التقدمي الكبير عمر الفاخوري الذي نشأ كاتبا واقعيا وتطور حتى ألّف كتابه الشهير (الاتحاد السوفييتي رأس الزاوية)، وأصبح رئيساً لحركة أصدقاء الاتحاد السوفييتي في لبنان. ودُعي أبو سلمي للاشتراك في حفل ذكرى الأربعين، فأعد لذلك قصيدة (منشورة في أحد دواوينه). وطلب إلى أبو سلمى أن أرافقه إلى بيروت فاعتذرت لأنني كنت مضطراً للظهور أمام المحكمة في قضية هامة في الموعد نفسه. ولكني ذهبت مع أبي سلمى لوداعه في مكتب فرج الله للسياحة مقابل محطة سكة الحديد القديمة، وإذا بنا نلتقي بأديب العربية إسعاف النشاشيبي في مكتب الشركة، كان أبو سلمى يعرفه. ولم أكن قابلته من قبل تصافحنا وتعارفنا. وسأله أبو سلمى إن كان متوجها إلى بيروت فقال: لا والله إلى مصر للاجتماع ببعض الإخوان في المجمع العلمي. ثم سأل أبا سلمى بدوره: وأنتما؟ فقال أبو سلمى مشيرا إلي: الأستاذ جاء معي مودعا. أما أنا فإلى بيروت لحضور حفل تأبين الأديب عمر الفاخوري.
فكر إسعاف قليلا وقال: إي والله، عمر لاقى ربه اشتراكياً».
بعد أن ودع النشاشيبي، نقارة وأبا سلمى، ومضى إلى القطار المتجه إلى مصر، ظل الاثنان ينتظران السيارة التي ستحمل أبا سلمى إلى بيروت. وفي هذه الأثناء قال أبو سلمى لنقارة: «أتعرف ملحا عن إسعاف قلت: لا. قال: جاء الرصافي إلى فلسطين مطاردا من حكومة العراق بعد أن قال: لنا ملك.. يعدد أياما ويقبض راتبا
وبعد أن قال:
يا قـــوم لا تتكـــــلـموا إن الكــــــلام محــــرم
نـــاموا ولا تســـتيقظوا ما فــــاز إلا النوَّم
فاستقبله إسعاف وأصبحا صنوين لا يفترقان. وكان إسعاف عاطلا عن العمل في حالة بائسة، وكان والده وهو احد أثرياء القدس، قد استنكر سلوكه ومجونه فغضب عليه وتبرأ منه ولم يقدم له أي عون مادي. كان يريد له أن يكون متدينا ورعا، ولكن إسعاف ضل سبيله على حد زعم والده، ونشأ ولدا (شريرا). وذات مرة مر مع معروف الرصافي بدكان فاكهة فشاهد صندوق تفاح تفعم رائحته جو المكان، فأخذ تفاحة وشمها وأعادها إلى مكانها وقال: موعدنا الجنة . فذهبت مثلا ، وحدث أن توفي والد إسعاف بعد بضعة أشهر . وكان إسعاف وريثه الوحيد، فسار خلف النعش باكيا نادبا، فاقترب منه الرصافي وأسر في أذنه هذه الشطرة: هذا الذي كنت يا إسعاف تنتظر، فذهبت مثلا».
ولا بد أن التنويه إن بيت الشعر الذي ينقله نقارة عن أبي سلمى، وقاله الرصافي قاصدا فيصل الأوّل هو:
ليس له من أمره غير إنه يعدد أياما ويقبض راتبا
في مذكرات واصف جوهرية، تفاصيل أكثر ولعلها أدق عن علاقة إسعاف بوالده، لأنها دونت من قبل شاهد عيان ومعايش للاثنين.
يتابع نقارة: «واستطرد أبو سلمى: ومن طرائفه، بعد وفاة والده واستيلانه على ثروته جالسا مع الرصافي يتنادمان فجاءا على ذكر أبي نواس وأشعاره ومنها قوله: من كل ذات حر في زي ذي ولد. فسأل الرصافي إسعاف إن كان يعرف كيف تجمع كلمة: حر، فراح إسعاف يذكر: حريوت، حريات، ومعروف يقول غلط حتى قال الرصافي أخيرا إنها تجمع: أحرار. أخذ إسعاف القاموس وقال للرصافي: صدقت ولكنا نسينا والله من قلة الاستعمال، فذهبت مثلا أيضا».
انتهى حديث حنا نقارة مع أبي سلمى، بمجيئ السيارة فسافر إلى بيروت حيث ألقى قصيدته في رثاء عمر الفاخوري.
ويعلق نقارة: «هكذا كان أبو سلمى يروي لي النوادر والملح الأدبية فأحفظها ومنها الكثير عن إبراهيم طوقان وجلال زريق (أبو رعد) وعنه نفسه في عهد سكناه في القدس أيام كانوا يعملون معا في الإذاعة وعن دعاباتهم مع عجاج نويهض. ولعله من الأولى أن يكتب أبو سلمى ذكرياته ويضمنها كل هذا».
ولكن زيتونة فلسطين عبد الكريم الكرمي (1909-1980)، غادرنا منذ زمن، ولا نعرف إن كان قد ترك شيئا من ذكرياته عن أيّام القدس الذهبية تلك، عندما كانت البلاد بلادا..!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين

  كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل  لا ابالغ اذا قلت انه من ال...