الاثنين، 27 يناير 2014

حديث الترجمة بقلم :الاستاذ سامي مهدي

ذكريات (22 )
***************

حديث الترجمة
بقلم :الاستاذ سامي مهدي

لي محاولات كثيرة في ترجمة الشعر عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية ، أصدرت منها أربعة كتب هي : جاك بريفير _ مختارات شعرية ، وهنري ميشو _ مختارات ، ومختارات من الشعر الإسباني المعاصر _ 1950 _ 1975 ، وسنابل الليل – مختارات من الشعر العالمي ، وهناك الكثير مما ترجمته ونشرته ضمن دراسات ومقالات أدبية كتبتها ونشرتها ، ورغم هذا كله لا أعد نفسي مترجماً محترفاً .
أنا مجرد هاوٍ في ترجمة الشعر ، ولم أترجم من غيره سوى القليل جداً من القصص والمقالات القصيرة قد لا يزيد عددها عن عدد أصابع اليدين . وقد كان وراء هذه الهواية ثلاثة دوافع أولها : إعجابي الشخصي بالشعر الذي أترجمه ، وثانيها : البقاء على تماس مستمر مع اللغتين الأجنبيتين اللتين تعلمتهما ، وثالثها : شعوري بحاجة وسطنا الأدبي إلى الإطلاع على نماذج من الشعر العالمي لم يلتفت إليها لسبب أو لآخر . وفي ما عدا استثناءات قليلة لم أترجم من الشعر إلا ما راقت لي ترجمته ووجدت في نفسي القدرة الكافية على إعطاء نصه العربي حقه من الدقة والجمال والإشراق ، ومن هذه الاستثناءات ما ترجمته من شعر الشاعر الأمريكي روبرت كريلي .
أذكر أن محاولاتي في الترجمة بدأت عام 1965 ، وهو العام الذي عدت فيه إلى كتابة الشعر بعد انقطاع دام نحو ست سنوات . فكنت إذا راقت لي قصيدة أعمد إلى ترجمتها . كان عندي يومئذ من الفراغ ما يجعلني آخذ مداي في متعة الترجمة حتى النهاية . وكان أغلب ما ترجمته في تلك الحقبة قصائد لشعراء إنكليز عرفوا باسم شعراء الحركة The Movement ، إذ كنت أتابع ما ينشرونه في ملحق جريدة التايمز الأدبي وفي مجلة إنكاونتر Encounter ومجلة لندن مغازين London Magazine وما أقتنيه من كتب المختارات التي تصدرها درا النشر المعروفة Penguin ، وفي مقدمتهم فليب لاركن وتيد هيوز وجورج ماكبث ، ثم بعض قصائد الأمريكيين ألن غينزبيرغ ولورنس فرلنغيتي .
غير أنني لم أبدأ بنشر ما ترتجمه إلا في عام 1966 عندما توليت تحرير الصفحة الأخيرة والصفحة الأدبية الأسبوعية في جريدة " صوت العرب " . وأذكر مما ترجمته ونشرته يومئذ قصيدة " بابي يار " لإيفتشنكو ، وإشراقة " ديمقراطية " لرامبو ، وقصيدتين لجورج ماكبث ، وواحدة لتيد هيوز . أما بقية ما ترجمته ، وهو ليس بالقليل ، فقد أهملته ومزقته إما لعدم ارتياحي لترجمته ، أو لقلة أهميته ، حتى إذا حلت ثمانينيات القرن العشرين بدأت أفكر بمشاريع للترجمة منها ما أسفر عن كتبي الأربعة التي ذكرتها ، ومنها ما بقي في أدراجي وأهمه مجموعة من قصائد الشاعر الأمريكي وليام كارلوس وليامز .
ولكن على الرغم من اتخاذي الترجمة هواية ، كنت أشعر بمسؤولية كبيرة حيال النص الذي أترجمه ، وحيال مؤلفه وقارئه ، وحيال نفسي أيضاً . ولذلك لم أستهن بأي نص ترجمته ، ولم أتعجل قط في ترجمته أو أستسهل نشره . أذكر أنني ترجمت نصوصاً كثيرة ثم أهملتها لشعوري بأنني لم أوفق فيها التوفيق الذي أنشده . ولذا ألزمت نفسي باعتماد منهج لم أتخل عنه في جميع ما ترجمته ونشرته . ويمكن تلخيص هذا المنهج بما يأتي :
أولاً : قراءة نصوص الشاعر قراءة متأنية متأملة ، والغوص في عالمه الداخلي ، والإحاطة بمناخه الشعري ، والتعرف على أدائه اللغوي والتقني .
ثلنياً : قراءة القصيدة التي أنوي ترجمتها مرات عدة حتى تتكشف لي دلالاتها وأسرارها الفنية .
ثالثاً : اعتماد الدقة والأمانة في الترجمة ، واحترام أسلوب الشاعر في توزيع أبيات قصيدته وكلماتها على الورق ، وطريقته في التنقيط ، حتى ليمكنني القول : إن ترجمتي للشعر حرفية أو شبه حرفية ، فأنا ضد ما يسمى ( الترجمة بتصرف ) لأنني أعتقد أنها تسيء إلى القصيدة وشاعرها ، ولذا كنت ألوم الشاعرة الكبيرة الراحلة نازك الملائكة على ترجماتها .
رابعاً : قراءة النص المترجم ، أي النص العربي ، عدة مرات ، في أوقات متباعدة ، ولا أقره إلا بعد أن أطمئن إلى تماسكه وقوة سبكه وانسيابيته .
خامساً : وضع هوامش للنص حيثما وجدت ذلك ضرورياً .
سادساً : كتابة تقديم واف عن الشاعر وشعره .
هذا كله لا يعني أنني لم أقع في بعض الهفوات ، ولكنها هفوات جزئية جداً ، وقليلة جداً ، في ما أظن . وهي هفوات قد لا تخلو منها أية ترجمة . وبعد تجربتي الطويلة في ترجمة الشعر وقراءة ما يترجمه الآخرون صرت أعتقد أن الشعراء هم أفضل من يترجمه ، لأنهم خير من يفهم النصوص الشعرية بأدائها اللغوي والتقني ، ويحفظ لها ، بأكبر قدر ممكن ، روح الشعر . فما من شعر يترجم من لغة إلى لغة أخرى إلا ويفقد قدراً من روحه وجماله ، ولذلك وصفت الترجمة بالخيانة ، أي خيانة النص الأصلي . وأحسب ، بعد ذلك ، أن الترجمة عمل يحتمل قدراً من الاجتهادات والاختلافات وتعدد الآراء ، كما يحتمل الخطأ والسهو وسوء القراءة ، وأن المراجعات والاستدراكات والتصويبات تقاليد مألوفة في عالم الترجمة .
وأحسب أيضاً ، أن ترجمة الشعر أفادتني كثيراً ، فقد قرأت النصوص التي ترجمتها بإمعان ، وغصت فيها بعمق ، بل قل : فككتها وأعدت تركيبها ، لأن الترجمة في نهاية الأمر تفكيك وإعادة تركيب ، وهذا مما أغنى ثقافتي الشعرية ، وزاد من خبراتي التقنية ، ومن قدرتي على التذوق والتمييز بين الجيد والضعيف ، فضلاً عما حصلت عليه من متعة التحاور مع النصوص ، ومصارعتها أحياناً ، وأفترض أن هذا أثّر في شعري نفسه ، وهو تأثير قد لا أحسه أو ألحظه ، ولكنني أفترض وجوده بشكل من الأشكال .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صورة فوتوغرافية رائعة للفنان الفوتوغرافي الاخ والصديق الفنان الاستاذ هيثم فتح الله عزيزة 2013

                                         صورة فوتوغرافية رائعة للفنان الفوتوغرافي الاخ والصديق الفنان الاستاذ هيثم فتح الله عزيزة 2013 وتصبح...