الأحد، 1 يونيو 2014

الحوزة العلمية الشيعية واصلاحها

الحوزة  العلمية الشيعية واصلاحها *
د.حسان عبد الله **
\
\\ \ \

يرتبط التعليم الديني في العالم الشيعي بمؤسسة المرجعية، ويطلق اسم الحوزة على الإطار الذي يجمع علوم الدين عند الشيعة وعناصر العملية التعليمية. والحوزة من العناصر الرئيسية للمؤسسة الدينية فقد لعبت دورا مهما في النظام التربوي الشيعي منذ القرن الربع الهجري وحتى يومنا هذا، وكان لها دور واضح في قيام الدولة الشيعية المعاصرة، وما زالت تمثل العمود الفقري للفكر الأصولي والعقائدي الإمامي.
ويهدف هذا النمط من التعليم إلى تلبية الاحتياجات العقدية والمذهبية للمجتمع الشيعي، وبصفة خاصة فإن هذا النوع من التعليم ومن خلال قواعد دراسية يتفرد بها يهدف إلى التأهيل لدرجة الاجتهاد في العلوم الدينية.

نشأة التعليم الديني عند الشيعة

تاريخياً ارتبطت نشأة الحوزات بعوامل رئيسية عدة، أهمها المحافظة على الهوية الشيعية، والرغبة في بلورة نظام تربوي وتعليمي متمايز عن الجماعة السنيّة (أهل السنة)، وبلورة تراث مذهبي خاص. أما انتشار وتعدد الحوزات وإنشاؤها فقد ارتبط بعوامل جغرافية مثل (تواجد مقابر الأئمة وآل البيت) و(هجرة العلماء من مكان إلى مكان )، وثقافية (الجدل الفكري بين المدرسة الأصولية والإخبارية)، وسياسية (قيام الدولة الصفوية) .
ومن الجدير بالذكر أن أقدم الحوزات على الإطلاق، تلك الحوزات التي نشأت في العراق وتحديداً في النجف الأشرف (أم الحوزات في العالم الشيعي القديم) ثم حوزة الحلة والتي نشأ فيها الفقيه محمد بن إدريس العجلي الحلي (ت 540هـ) ، ثم حوزة كربلاء التي بزغ فيها الاسترآباذى (ت: 1036هـ) الفقيه الإخباري ومؤلف كتاب (الفوائد المدنية) .
أما حوزة قم، فقد عملت الدولة الصفوية، التي أعلنت المذهب الشيعي مذهباً رسمياً لها (905 هـ - 1148هـ) على محاولة نقل المركزية العلمية الشيعية إلى إيران؛ لأسباب وعوامل يرى أغلب المفكرين الشيعة أنها سياسية، وتمثل ذلك في: رعاية رجال الدين الشيعة، وإنشاء المدارس الدينية والمزارات الشيعية في إيران، كما تمثل ذلك - أيضاً- في محاولة جذب الفقهاء والمراجع الشيعة إليها، وقد كان لفقهاء جبل عامل في لبنان دور كبير في تثبيت أركان المذهب الشيعي في ظل الدولة الصفوية.
وقد حدثت نقطتا تحول في تاريخ حوزة قم، جعلتا منها مركزاً للعلم الشيعي خلال القرن العشرين وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين وهما:

1· مجيء آية الله عبد الكريم الحائري اليزدي لهذه الحوزة والإقامة فيها وقد أعطى ذلك دفعة وحياة جديدة لحوزة قم، وقد عقد الحائري اجتماعاً حضره العلماء والتجار في طهران وقد حضره عدد من الفقهاء مثل آية الله بافقي وآية الله فيضي وذلك بغرض وضع أسس للحوزة العلمية بقم وكان ذلك في عام 1919م فكان له أثر كبير في نمو وازدهار هذه الحوزة".

2· حادثة تسفير خمسين عالماً إلى إيران (1343 هـ - 1924م) تقدمهم ثلاثة مراجع كبار لهم سجل حافل بالجهاد والفقه، حيث قدموا من عدد من الدول مثل العراق ولبنان إلى إيران، ثم كان لنجاح الثورة الإسلامية في إيران (1979م) دور كبير في تحقيق زعامة حوزة قم على الحوزات الموجودة في العالم الشيعي المعاصر.
وقد لعبت هذه الحوزات دوراً مهماً في المحافظة على الهوية العقائدية والثقافية، كما أنها أسهمت وبشكل كبير في بلورة الفكر الشيعي ونسقه العقدي والثقافي وذلك من خلال المراجع الذين أسسوا هذه الحوزات، كما قامت هذه الحوزات بتوريث الفكر الشيعي للأجيال القادمة وحفظة من الضياع والإهمال لا سيما في بعض الفترات التاريخية .

نظام التعليم الديني

تتبع الحوزة نمطاً تعليمياً متميزاً يقوم على الدراسة الحرة للطلاب، وينقسم هذا النظام التعليمي إلى ثلاث مراحل تعليمية، هي:
1· مرحلة المقدمات: ويقصد بهذه المقدمات "العلوم التقليدية" التي تعد مساعدة وممهدة للتخصص في الفقه الإمامي، ويدرس فيها الطالب علوم العربية: الصرف والنحو والبلاغة، والعلوم العقلية: المنطق والكلام وعندما يجتاز الطالب هذه المرحلة يحصل على لقب "ثقة الإسلام".

2· مرحلة دراسة السطوح: ويدرس فيها مواد معينة في الفقه وأصوله تجعله قادراً على الدخول في مرحلة الدراسة العليا، ومن أهم الكتب التي تدرس في الفقه كتاب: "الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية" لزين الدين العاملي، وكتاب " بداية الحكمة" لمحمد الطباطبائي. ومرحلة السطوح العليا، ويدرس فيها كتاب "الكفاية" للشيخ الآخوند الخراساني، وكتاب "الرسائل" للأنصاري . وعندما ينهي الطالب هذه المرحلة يحصل على لقب "حجة الإسلام والمسلمين".

3· مرحلة البحث الخارج: وسميت هذه المرحلة بالخارج، لأن الدراسة هنا تكون خارج الكتب أي لا يُلزم المعلم الطالب بكتاب مقرر، ولكن يلزمه بطريقة البحث العلمي في إعداد مادة الدرس من مختلف مصادرها، واجتياز هذه المرحلة يؤهله لدرجة الاجتهاد  " آية الله ".

التحديات ومحاولات الإصلاح

ظل هذا المنحى التربوي مهيمناً على عملية التعليم في الحوزة ومن دون أي تطوير في الشكل أو المضمون، إلى حين تعرضت الحوزات لما تعرض له العالم الإسلامي كله من بداية القرن التاسع من موجات متتابعة من التغريب والغزو الثقافي والفكري الذي لازم الاحتلال العسكري وسقوط الخلافة الإسلامية، وظهور الحكومات الموالية للغرب سياسياً وثقافياً، ومن ثم واجهت الحوزة تحديين أساسيين، الأول: الاتجاه التغريبي ومحاولة إقصاء التعليم والمعرفة الدينية، والثاني: التقليد والجمود في الدرس الديني في الحوزة .
وكان لهذه العوامل الأثر في ظهور الإرهاصات الأولى لمحاولات التطوير والإصلاح في الحوزة والشعور بالحاجة إلى ذلك لدى نفر غير قليل من علماء ومراجع الحوزة، كما جاءت محاولات الإصلاح في اتجاهين أساسيين الأول: لمعالجة أوجه القصور في النظام الداخلي للحوزة، والثاني: اهتم بمضمون الدرس الحوزوي.

ومن أبرز مشاريع الإصلاح التعليمي الشيعي:

عز الدين الجزائري، وتنظيم الحوزة العلمية

قدم عز الدين الجزائري المتوفى (2005) أطروحة سنة 1940م تهدف إلى تنظيم الحوزة العلمية وذلك عن طريق: توحيد الإدارة العامة للحوزة وفتح باب الاجتهاد، ضبط الاقتصاد الشرعي لجهاز المرجعية الأولي وللأمة.. إيراداً وصرفاً، واهتم - أيضاً - بتنظيم الدراسة وإنشاء فروع صفية جديدة، وتحديد ومراقبة عمل المدرسين، وتقنين أعداد الطلاب المقبولين سنوياً بعد اجتيازهم لعدة اختبارات، تحديد المواد الدراسية الأصلية والثقافية وإنشاء لجان فروع التبليغ والبعثات، وتحديد أوقات العطل والدوام بشكل محدد ومعقول لسائر الأجهزة والطلاب .

مبادرة كاشف الغطاء في النجف، إنشاء مدرسة علمية في النجف

وتمثلت هذه المبادرة في إنشاء مدرسة علمية في النجف (1931م) وبرزت معالم الإصلاح في هذه المدرسة في وضع منهاج عام للدروس والكتب التي يتم تدريسها، وتقسيم المراحل التعليمية إلي أولي وثانوي وعالي، مع تحديد ضوابط للفترة الزمنية في كل مرحلة وكل قسم، رعاية الطلاب المتفوقين، إنشاء مجلة لتحرير الأفكار الدينية والعلمية، تعديل وتطوير مناهج التعليم، إدخال مواد تثقيفية إضافة إلى المواد الأصلية.

مبادرة السيد محسن الأمين في دمشق

حاولت هذه المبادرة التي قادها السيد محسن الأمين في دمشق معالجة الأخطاء التي توجد في الحوزة مثل عدم وجود ضوابط في أسلوب وطريقة تلقي الدراسات العلمية في الحوزة والتشتت والاضطراب في النظام الحوزوي، لهذا دعا إلي إنشاء مدارس نموذجية، فأنشأ مدرسة "السيد محسن الأمين" و" معهد عالي للدراسات الحوزوية " للطلاب غير القادرين على الذهاب إلى النجف، مع مراعاة تنظيم الدراسة والطلاب والمناهج، وأكد صاحب المبادرة على أن التمسك بالطريقة القديمة يُعد من أهم العقبات التي تقف في وجه تطوير الحوزة، لذا دعا إلى تهذيب كتب "الفقه والأصول" وضرورة اتباع المناهج الحديثة في إعدادها وتنظيمها وتبويبها، كما دعا إلى إنشاء هيئة متخصصة لتأليف الكتب الدراسية بطريقة علمية، ورأى ضرورة تقنين المراحل الدراسية وضبط عنصر الزمن فيها.

مبادرة الشيخ المظفر، إنشاء "كلية الفقه"

ومن أبرز إنجازات الشيخ محمد رضا المظفر في مجال إصلاح التعليم الديني إنشاء "كلية الفقه" (1957م) وهي إحدى المؤسسات التعليمية المنبثقة عن جمعية منتدى النشر التي أنشئت في النجف عام (1924م)، وتحددت أهداف هذه الكلية في: تنظيم الدراسة الحوزوية في مرحلتي المقدمات والسطوح، إعداد نخبة واعية من الطلاب على درجة عالية من الثقافة الإسلامية والعلوم الحديثة، تحديد قواعد قبول واختبارات للطلاب المتقدمين، عدم اشتراط الزي المعروف، وقد التحق بهذه الكلية حوزويون، وخريجو ثانويات، ومعلمو مدارس ابتدائية راغبون في تحسين أوضاعهم الوظيفية والمادية، وقد شارك في عملية التدريس في الكلية أساتذة من حملة الدكتوراه من جامعة بغداد إلى جانب الحوزويين.
وقد اهتم المظفر بمنهجية الدراسة في هذه الكلية بطريقة لم تكن معهودة في الحوزات من قبل، حيث تضمن البرنامج الدراسي مواد: الفقه الإمامي والفقه المقارن، والتفسير والحديث، ومواد خاصة بالثقافة الإسلامية (الفلسفة الإسلامية والتاريخ الإسلامي) كما أضاف بعض المناهج والمقررات المعاصرة مثل التربية وعلم النفس والأدب وطرق التدريس واللغة الإنجليزية.
ومنحت هذه الكلية شهادات لخريجيها معترفاً بها من الجهات الرسمية، وتعد هذه المحاولة التي قدمها المظفر أبرز المحاولات التي جمعت بين الدراسة الدينية الحوزوية وبين العلوم المعاصرة وهو ما لم تنتبه إليه الحوزات إلا بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران وتحت التوجيه السياسي .

تطوير الدرس الفقهي

انتقد محمد باقر الصدر(ت1980م) الدرس الفقهي الموجود في الحوزة باعتباره لا يلائم التغير الاجتماعي الحادث، كما أنه يتسم بالجمود ومن مظاهره التمسك بالكتب الفقهية القديمة التي تعود إلى أكثر من مائة عام، فضلاً عن أن هذه الكتب لم تكن موجهة بالأساس إلى الطلاب، بل كتبها العلماء باعتبارها رسائل علمية ناضجة، لذا فإنها لا تراعي القواعد والشروط المقررة في الكتب الدراسية التي يجب أن تقدم للطلاب والدارسين في الحوزة، والكتب القديمة التي كانت تدرس آنذاك هي "المعالم"، "القوانين"، و"الرسائل" و"الكفاية".
كذلك فإن هذه الكتب الفقهية لا تستوعب القضايا والمصطلحات والمسائل الفقهية المعاصرة، بما يفصل الدارس عن حاجات عصره ومجتمعه ويجعله يعيش في عقل فقهي من زمن مختلف، كما أن الدرس الفقهي ظلّ يعتمد الأساليب التحريرية التقليدية مهملاً الأساليب التحريرية التي أبدعتها العلوم الحديثة.
ومن هنا فقد دعا "الصدر" إلى استبدال الكتب الفقهية الدراسية القائمة لاعتقاده بعدم صلاحيتها كمقررات دراسية وفي المقابل قدم "الصدر" دروسه الفقهية بصورة معاصرة حاول أن يوازن فيها بين التراث الفقهي الإمامي والمتغيرات المعاصرة، والتدرج الكمي والكيفي في عرض القضايا والمسائل الفقهية، وذلك في موسوعته الفقهية "دروس في علم الأصول"، مقسمة إلى ثلاث حلقات لطلاب مرحلة السطوح والعليا وذلك حسب قوله لـ"مراعاة التدرج الكمي والكيفي في درس الموضوعات الفقهية وبما يحقق للطالب التواصل مع تراثه وواقعه الاجتماعي".
ففي الحلقة الأول تناول "الصدر" التصورات العلمية الضرورية التي يجب أن يكون الطالب على دراية ومعرفة بها وتحتوى على توضيح للعديد من المصطلحات والمقولات الأصولية، أما الحلقة الثانية فتهتم بالاستدلال بما يناسب المستوى المعرفي للدارس، وصولاً إلى الحلقة الثالثة في المستوى الأعلى من الاستدلال والذي يحقق الهدف المطلوب من دراسة السطح.
واهتم "الصدر" أيضاً بلغة هذه "الدروس" بحيث تكون خالية من التعقيد الموجود في الكتب القديمة – التي يستعصي فهمها على الطالب – وتقديمها بلغة واضحة وافية المعنى.
وعمل "الصدر" أيضاً في محاولته المذكورة على تهذيب الأدلة والاستدلالات والروايات الكثيفة التي تحفل بها كتب القدماء بما يعين الطالب على الاستيعاب والفهم الجيد للمسألة المطروحة.

تطوير الدرس الفلسفي

يرصد عبد الجبار الرفاعي – الباحث والأستاذ بالحوزة العلمية – بعضاً من الإشكالات التي عانى منها الدرس الفلسفي في الحوزة خلال القرن العشرين ومنها : قصور الأسلوب التقليدي في دراسة الفلسفة، اختصار الفلسفة الإسلامية بصدر الدين الشيرازي، الارتهان للمشاغل التقليدية للفلسفة، غياب الاهتمام بالفلسفة والعلوم المعاصرة، ندرة الفكر الفلسفي التأسيسي.
أما فيما يتعلق بإصلاح وتطوير الدرس الفلسفي في الحوزة فيمكن ملاحظة إسهامات محمد حسين الطباطبائي (ت1983م) في كتابه "أسس الفلسفة والمذهب الواقعي" والذي قام بتحريره وكتابة مقدمته تلميذه مرتضى مطهري( ت 1980م). وأبرز أهداف هذه المحاولة هو إعداد بديل لفلسفة الملا " محمد بن إبراهيم القوامي الشيرازي" المتوفى (1050هـ= 1640م) والتي انشغل بها الدرس الفلسفي في الحوزة لفترات طويلة من دون تطويرها أو الاستفادة منها بالشكل الأمثل.
ويأتي الكتاب – أيضاً – في محاولة لتأريخ الفلسفة الإسلامية وأحيائها بصورتها الشاملة، ولمواجهة الفلسفة المادية في الغرب والتي تسللت إلى بلاد العالم الإسلامي إثر الاحتلال العسكري والغزو الثقافي.
ويشير مطهري في مقدمة الجزء الأول من كتاب "أسس الفلسفة" إلى دوافع الطباطبائي في تأليف دورة فلسفية تشتمل على التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام، وتضم الآراء والنظريات الفلسفية الحديثة أيضاً، بحيث تستطيع تقريب المسافة بين النظريات الفلسفية القديمة والحديثة، و-أيضاً- تلبية الاحتياجات الفكرية المعاصرة وتبين قيمة الفلسفة الإلهية التي تتجلى فيها عظمة العلماء المسلمين، والتي تشيع الفلسفة المادية عنها أن مرحلتها التاريخية قد انتهت".
وجاءت محاولة الطباطبائى لمواجهة الفلسفة المادية (الديالكتيكية) وما ارتبط بها من مقولات غير صحيحة من الناحية العلمية، وكذلك البحث في أسباب التقدم العلمي في أوروبا بعد التخلف الحضاري الكبير الذي عاشته قروناً طويلة. ومن ناحية أخرى تضمن كتاب "أسس الفلسفة" مسائل وقضايا جديدة لم تكن مطروحة في الدرس الفلسفي القائم، والذي اختصر الفلسفة الإسلامية في مئتي مسألة بينما تضمن كتاب " أسس الفلسفة" الذي قدمه الطباطبائي سبعمئة مسألة مستقاة من الفلسفة الإسلامية.
أما الإسهام الفلسفي الثاني، فكان لمحمد باقر الصدر في دراسته العلمية " الأسس المنطقية للاستقراء" والذي أظهر فيه الطريق الثالث للمعرفة بين "المذهب العقلي" و"المذهب التجريبي" والذي أسماه" بـ "المذهب الذاتي للمعرفة" وحاول فيه إعادة بناء نظرية المعرفة على أساس جديد.
ويمكن أن نرى هذه المحاولة في ضوء التزاحم الذي طرأ على المشهد الفلسفي الإسلامي نتيجة إغراقه بالفلسفة المادية لاسيما "الجدلية التاريخية" لماركس وأنجلز، وهي رؤية – أيضاً – للصدر قدم فيها البعد الإلهي والإيماني في نظريته المعرفية، وعند مناقشة "المذهب التجريبي" و"العقلي" حيث يذكر في خاتمة دراسته " أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها الاستدلالات العلمية هي نفس الأسس التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبر لهذا العالم، فالعلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، وقد يكون ذلك هو السبب الذي أدى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوعة على إثبات الصانع تأكيداً للطابع التجريبي الاستقرائي للدلالة على إثبات الصانع".

الثورة الإسلامية وإصلاح التعليم الديني

أدرك رجال الدين في الحوزة ضرورة الإصلاح والمخاطر التي يمكن أن تتعرض لها الحوزة إذا ظلت علي أوضاعها التقليدية – لاسيما – في ظل العوامل والمتغيرات التي تتعرض لها المؤسسات التربوية بشكل عام. كذلك كان لحدث الثورة الإسلامية دور مهم في التأثير المؤسسي للإصلاح الحوزوي. وتشير د. "زهرا إحساني" إلى أهم التحديات التي واجهت الحوزة العلمية والتفكير الديني في العصر الحديث وهي: الإحياء والإصلاح الاجتماعي، الإحياء الفكري والمعرفي، التحولات المعرفية في مجالات التفكير الديني والكلامي في الغرب، حدث الثورة الإسلامية وحاكمية الدين، الأسئلة المتصلة بنظرية المعرفة الدينية وعلم المنهج، الإشكاليات الفلسفية الكلامية المتصلة بفلسفة الدين والكلام.
وقد أشار الخميني إلى أوجه القصور في الحوزة العلمية قبل الثورة، وأهمها: وجود ما أسماه "العلماء المتحجرين المتظاهرين بالصلاح" الذين حرموا الحوزة في إيران من دراسة الفلسفة والعرفان واللغات الأجنبية، وفصل الدين عن السياسة، وانفصال الحوزة عن المجتمع واحتياجاته؛ لذلك دعا الخميني إلى تنظيم الحوزات وإعادة هيكلتها ورفض شعار "نظام الحوزة في عدم نظامها"، وأكد في بياناته بعد الثورة على ضرورة ربط الحوزة بحاجات المجتمع وتطلعاته، وذلك من خلال ابتكار نظريات فقهية ترتبط بالواقع، بما أن الفقه الإسلامي مرن يرتبط بعنصري الزمان والمكان، والتأكيد على مسؤولية الحوزة في هذا التطوير.
ومن هنا رأى الخميني أن على المجتهد ضرورة الإحاطة بالأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن السؤال الأهم الذي تجب مراعاته في البرنامج التدريسي والتعليمي للحوزة، هو كيف نطبق الأصول الثابتة للفقه في عمل الفرد والمجتمع؟ وكان لدعوة الخميني أثر ملموس في تطوير الحوزة بسبب ارتباط كثير من المراجع والطلاب بالنظام الجديد في إيران بعد الثورة، ومواجهة الاتجاه التقليدي الذي رفض فكرة إيجاد إصلاحات أو تغييرات في نظام الحوزة.
سارت عملية الإصلاح في الحوزة في مسارات عدة أهمها المسار الإداري، حيث شهدت الحوزة العلمية في قم على المستوى الإداري تغييرات هيكلية مهمة، تمثلت في تشكيل أول إدارة للحوزة في إيران على مستوى تاريخها الطويل، حيث تشكل المجلس الأعلى لشورى الحوزة بقم في أوائل عام 1981م بتأييد من الخميني وبعض المراجع في الحوزة، وذلك في محاولة لتقنين الدرس العلمي في الحوزة وضم المدارس التعليمية تحت هذه الإدارة.
وتم تحديث التعليم في الحوزة، حيث تم التخلص من الصياغات الكلاسيكية للكتب المقررة، المشبعة بالإبهام والغموض، واهتمت الكتب البديلة بإعادة ترتيب المسائل وفق منهجية أحدث، وتهذيب واستبعاد ما هو هامشي، والتدوين بأسلوب واضح يبتعد عن الاختزال والغموض، وتنظيم البرامج والفصول الدراسية، والسعي لتدشين تخصصات في المعارف الإسلامية، واستعارة الصيغة الحديثة للتعليم الجامعي وذلك بالارتقاء بالبرامج الدراسية إلى مسافات التعليم الجامعي، وإحداث تخصصات متنوعة في المعارف الإسلامية باستعارة الحقول المختلفة للعلوم الإنسانية أو تدشين تخصصات في العلوم الإنسانية.
وأضيفت درجات الليسانس (كارشناسى) والماجستير (كارشناسى ارشد) والدكتوراه (دكترا) في الحوزات الجديدة التي أنشئت في ظل هذه التحولات وقامت بعض الحوزات بمعادلة شهادتها بالشهادات الجامعية، وتحددت فيها سنوات الدراسة مثل جامعة الإمام الصادق أول جامعة تأسست في الحوزة على نمط التعليم الجامعي ( 1983م).
وظهرت بصورة كثيفة مؤسسات تعليمية عدة تحت مسميات حوزوية ولكن على النمط الجامعي، مثل "مؤسسة الخميني للبحث العلمي والتعليم"، "جامعة المفيد"، "مؤسسة باقر العلوم للتعليم العالي"، "معهد الفقه والحقوق"، "جامعة الإمام الصادق". كما تأسس أكثر من 500 مركز بحثي يستوعب الخريجين الجدد لهذه المعاهد والمؤسسات والجامعات الحوزوية، بهدف تحقيق التكامل المعرفي بين الحوزة والجامعة، سواء كان ذلك في إصدار الدوريات المختلفة أو إعداد الكتب في ميادين العلوم الإنسانية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*http://aafaqcenter.com/post/496
** حسان عبد الله - متخصص في الفكر التربوي الإمامي
نشرت الدراسة في (إسلام اونلاين) بعنوان :إصلاح الحوزة الشيعية.. كسر الجمود والانفتاح على العصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...